أهمية المشاريع الصغيرة في بناء الاقتصاد السوري

الكاتب: اتحاد سوريا العهد الجديد تاريخ النشر: آخر تحديث: وقت القراءة:
للقراءة
عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق
null

أ. عبدالرحمن ابراهيم: تحتاج سوريا إلى وضع استراتيجية وطنية شاملة تركز على دعم ريادة الأعمال وضمان شفافية توزيع الموارد. من المهم أن يكون هناك اهتمام خاص بالمناطق الريفية والمتضررة، لتخفيف الضغط عن المدن الكبرى ومنح جميع المناطق فرصة متساوية للنمو


سوريا، التي كانت تشكل واحدة من أهم الاقتصادات المتنوعة في الشرق الأوسط، تعرضت خلال السنوات الأخيرة لدمار اقتصادي شامل، حيث قُدرت خسائر الاقتصاد السوري بأكثر من 442 مليار دولار حتى عام 2022 وفق تقرير البنك الدولي. مع ذلك، تُشكل مرحلة ما بعد سقوط نظام عصابة الأسد، فرصة فريدة لإعادة بناء الاقتصاد السوري على أسس أكثر شمولية واستدامة. تلعب المشاريع الصغيرة دورًا حاسمًا في هذه المرحلة، ليس فقط لكونها قادرة على تحفيز النمو الاقتصادي، بل لأنها أيضًا أكثر قدرة على التكيف مع الظروف غير المستقرة التي تمر بها البلاد.

دور المشاريع الصغيرة في الاقتصاد السوري:

1. تعزيز النمو الاقتصادي الشامل

يشير الخبير الاقتصادي محمد الزيات إلى أن المشاريع الصغيرة تمثل العمود الفقري للاقتصادات الناشئة، حيث تشكل 80-90% من إجمالي النشاط الاقتصادي في العديد من الدول النامية. في سوريا، يمكن لهذه المشاريع أن تلعب دورًا مماثلًا عبر استهداف القطاعات الأكثر تضررًا مثل الزراعة والصناعات التحويلية. على سبيل المثال، يمكن إحياء الصناعات الحرفية التقليدية مثل صناعة الصابون والغزل والنسيج، والتي كانت تُصدر قبل الحرب إلى الأسواق العالمية

2. استيعاب العمالة العاطلة عن العمل

في تقرير لمنظمة العمل الدولية، تجاوزت البطالة في سوريا 50% بحلول عام 2021. في هذا السياق، يوضح الاقتصادي طلال أبو غزالة أن المشاريع الصغيرة توفر فرص عمل مرنة وغير مكلفة، ما يجعلها أداة مثالية لامتصاص البطالة. كما يمكن لهذه المشاريع أن تستهدف الفئات الأكثر تضررًا، مثل الشباب الذين يمثلون أكثر من 60% من السكان.

3. إعادة توزيع الثروة وتحقيق العدالة الاجتماعية

تُظهر الدراسات الاقتصادية أن المشاريع الصغيرة غالبًا ما تنشط في المجتمعات الريفية والمناطق النائية. ووفقًا للبروفيسور جوزيف ستيجليتز، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، فإن هذا النوع من النشاط الاقتصادي يعزز العدالة الاجتماعية ويقلل من الفوارق بين المناطق المختلفة. في سوريا، يمكن أن يساعد دعم المشاريع الصغيرة في تحقيق توازن اقتصادي بين المناطق الريفية والمدن الكبرى.

نماذج اقتصادية دولية: دروس لسوريا
1. فيتنام
بعد حرب طويلة، اعتمدت فيتنام على المشاريع الصغيرة لتحقيق نهضتها الاقتصادية. يُشير تقرير صادر عن البنك الدولي إلى أن هذه المشاريع ساهمت بأكثر من 40% من الناتج المحلي الإجمالي خلال عقدين من الزمن. اعتمدت الدولة على قروض ميسرة، برامج تدريبية، وحوافز ضريبية لدعم هذا القطاع.
2. ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية
لعبت المشاريع الصغيرة والمتوسطة دوراً رئيسياً في إعادة بناء الاقتصاد الألماني من خلال دعم الصناعات المتخصصة. كانت هذه المشاريع مركزًا للابتكار والإنتاجية، وهو ما يُمكن تطبيقه في سوريا لتطوير قطاعات مثل التكنولوجيا والطاقة المتجددة.

استراتيجيات مقترحة لدعم المشاريع الصغيرة في سوريا

توصي الدراسات الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD) بضرورة تأسيس صناديق تمويل دولية موجهة لدعم المشاريع الصغيرة، خاصة في الدول الخارجة من النزاعات. في السياق السوري، يمكن أن تلعب الحكومة المستقبلية دورًا محوريًا في التعاون مع المؤسسات الدولية لتوفير قروض ميسرة تستهدف المشاريع الزراعية والحرفية، ما يعزز القدرة على التعافي الاقتصادي بشكل تدريجي ومستدام. إلى جانب ذلك، يعتبر تعزيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص خطوة استراتيجية مهمة لدعم المشاريع الصغيرة، حيث يمكن للحكومة عقد شراكات مع الشركات المحلية والعالمية لإطلاق برامج تدريبية وإدخال تقنيات حديثة. من الأمثلة على ذلك، تحفيز الشركات العالمية للاستثمار في مشاريع صغيرة متعلقة بالطاقة البديلة مثل ألواح الطاقة الشمسية، التي تمثل حلًا مثاليًا للريف السوري الذي يعاني من نقص حاد في مصادر الطاقة التقليدية.

من جانب آخر، تعد إعادة بناء الأسواق المحلية جزءًا لا يتجزأ من إعادة هيكلة الاقتصاد السوري. يمكن للحكومة أن تبدأ بإحياء الأسواق التقليدية التي كانت تمثل قلب النشاط التجاري قبل الحرب، مثل سوق الحميدية وسوق حلب، مما يوفر بيئة داعمة لأصحاب المشاريع الصغيرة. كما يمكن أن يشكل إنشاء "مناطق اقتصادية خاصة" في المدن الكبرى منصة جاذبة للمستثمرين المحليين والدوليين، مما يسهم في تعزيز الاقتصاد المحلي.

وفي ظل التحول الرقمي الذي يشهده العالم، يصبح تحفيز الاقتصاد الرقمي فرصة واعدة للشباب السوري. يشير الاقتصادي عبد الله الدندشي إلى أن المشاريع الصغيرة التي تعتمد على التكنولوجيا، مثل التجارة الإلكترونية وخدمات البرمجيات والتعليم عن بُعد، يمكن أن تشكل رافعة اقتصادية كبيرة لسوريا. هذه القطاعات لا تحتاج إلى بنية تحتية معقدة، مما يجعلها مناسبة للظروف الراهنة.

ومع كل هذه الفرص، يبقى التحدي الأكبر مرتبطًا بعدم الاستقرار السياسي والأمني الذي يثني الكثير من المستثمرين عن المخاطرة. كما أن نقص البنية التحتية الأساسية في المناطق المتضررة يشكل عقبة كبيرة أمام استدامة هذه المشاريع. علاوة على ذلك، فإن غياب التشريعات الداعمة لريادة الأعمال يعوق تطور المشاريع الصغيرة.

لمواجهة هذه التحديات، تحتاج سوريا إلى وضع استراتيجية وطنية شاملة تركز على دعم ريادة الأعمال وضمان شفافية توزيع الموارد. من المهم أن يكون هناك اهتمام خاص بالمناطق الريفية والمتضررة، لتخفيف الضغط عن المدن الكبرى ومنح جميع المناطق فرصة متساوية للنمو. وأخيرًا، يبقى استقطاب الكفاءات السورية المغتربة ضرورة لتقديم الخبرات اللازمة وتطوير المهارات المحلية، مما يسهم في تعزيز مسيرة التعافي الاقتصادي وتحقيق الاستقرار في المستقبل.


ختامًا، لا يمكن تصور نهضة الاقتصاد السوري دون وضع المشاريع الصغيرة في قلب الاستراتيجية التنموية، فهي ليست مجرد أدوات اقتصادية عابرة، بل هي جسر عبور حقيقي نحو تعافٍ وطني شامل. في عالم ما بعد الحروب، تُثبت التجارب أن الاقتصادات القوية لا تُبنى على أكتاف الاستثمارات الضخمة وحدها، بل على تلك الجهود الصغيرة التي تنبع من طموحات الأفراد، وتجتمع لتشكل نهرًا من الإنتاج والابتكار. في سوريا ما بعد الأسد، يمكن لهذه المشاريع أن تتحول إلى محرك للتغيير، حيث تزرع بذور الأمل في أراضٍ أنهكتها الحرب، وتعيد صياغة النسيج الاجتماعي الذي تمزق بفعل النزاع.

المشاريع الصغيرة ليست فقط وسيلة لتحقيق النمو الاقتصادي، بل هي أيضًا انعكاس لرؤية اقتصادية شاملة تُؤمن بالإنسان كجوهر للتنمية. عبر دعمها، يمكن خلق فرص عمل جديدة تمتص البطالة وتعيد الكرامة للفئات المهمشة، ويمكن بناء اقتصاد أكثر عدالة وشمولًا يحد من التفاوت بين المناطق الريفية والمدن. والأهم من ذلك، أن هذه المشاريع تحمل في طياتها وعدًا بإعادة الروح إلى الأسواق المحلية، وإحياء الصناعات التقليدية، وفتح الأبواب أمام الابتكار الرقمي.



بقلم أ. عبد الرحمن ابراهيم/ رئيس المكتب الداخلي في اتحاد سوريا العهد الجديد
مهندس مدني و خبير اقتصادي

روابط التواصل الاجتماعي






قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

ليست هناك تعليقات

8301667542222144432

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث