
بقلم أ. ميرال عبود: التكنولوجيا الرقمية سلاح ذو حدين
"يجب أن نكون كشعوب على دراية بالتحديات والمخاطر المحتملة، لكي نستغل فوائد التكنولوجيا الرقمية بأقصى قدر ممكن دون التضحية بالقيم والمبادئ الأساسية".
تُعتبر الأمم القوية منطلقًا على أرض الفكر والإبداع، ولكن إذا أردت تدمير أمة ما، فلن يكون هناك طريقة أسرع وأفضل من استهداف عقول شبابها. ففي عقولهم يكمن المستقبل، وفي قوتهم تتجسد الأماني والطموحات.
وتبعا لما نعاينه في يومياتنا بأن نرى أن المستقبل المشرق لأطفالنا يتعرض لخطر شديد، بفعل طرح سوء المبادئ الأخلاقية التي تجتاح مجتمعاتنا، مفتعلة ثغرات الهدم في أذهان الكبار والصغار من تهديد بتفكيك النسيج الاجتماعي وتقويض القيم الأساسية التي تبني عليها الأمم تطورها وتقدمها، وكل هذا مختصر بسلاح واحد يستهدفنا إسمه السوشيال ميديا .
كان لابد من طرح مساوء هذه الآفة الرقمية، وذلك من خلال ان ننطلق في اتحاد سوريا العهد الجديد لطرح المشكلة والسعي لمعالجتها لكونها تنخر في عقول شبابنا. وأيضاً أن نسلط الضوء على تأثيرات مواقع التواصل الإجتماعي السلبية والمدمرة لمسارات تطورهم وتقدمهم الشخصي والمجتمعي، ونلقي الضوء على هذا السلاح الذي سيفتك بحضارتنا وما تبقى من القيم.
أسمع أرى أتكلم
للوهلة الأولى، يخطر في بال القارئ صورة القرود الثلاثة التي تُعتبر رمزاً للسرية التامة، والتي تجسد فكرة "لا أرى، لا أسمع، لا أتكلم". ولكن الحقيقة أن القرود الثلاثة هي شكل تشبيهي للحالات التي تتميز بعدم القدرة على السماع والرؤية والتحدث. وهو تمثيل مختصر لفرضية علمية في علم النفس تُعرف باسم "ALS"، والتي ترمز إلى "التصلب الجانبي الضموري"، وتُستخدم لوصف مجموعة من الظروف التي تؤدي إلى العجز في هذه القدرات الأساسية.
مشروع P300
تتنوع الدراسات والأبحاث في مجال التحكم بعقل الإنسان والتواصل معه بشكل مباشر بين مجالات مختلفة مثل الطب النفسي والهندسة العصبية والذكاء الصناعي والتكنولوجيا الحيوية. فقد تطورت هذه الدراسات لتشمل تقنيات مثل التحفيز العصبي والتفاعل العقلي-الحاسوب والواقع الافتراضي والتعلم الآلي. وتهدف هذه الجهود الرائدة إلى تطوير أنظمة تواصل متقدمة وأجهزة مساعدة للأشخاص الذين يعانون من إعاقات أو حالات صحية معقدة.
ويمكن ان نذكر أحد أهم التجارب المعروفة في هذا المجال، تقنية "P300 Speller"، والتي تعتمد على تسجيل أمواج الدماغ P300 للتواصل مع الأشخاص الذين يعانون من الشلل أو الضعف الحركي.
مشروع P300 Speller هو مشروع قديم يهدف إلى تطوير تقنية للتواصل مع الأشخاص الذين يعانون من الشلل أو الضعف الحركي باستخدام النشاط العقلي. فكان أول من اخترع هذه التقنية، فريق بحثي من جامعة توبنغن الألمانية، بقيادة بروفيسور بيرنت شلوك، وذلك في عام 1988.
حيث أنه يمكن للمستخدم لهذه الخاصية التحكم في حروف على شاشة الكمبيوتر باستخدام تفريغ العقل لتكوين الكلمات والجمل، أو انه يمكن ان يحرك عينيه في اتجاه معين لكي يتم التعامل مع الحركة للارشاد على شيء ما من خلال نظام ترجمة الحركة.
ومع تطور التكنولوجيا، أصبحت الهواتف النقالة والأجهزة اللوحية تقدم وسيلة للتواصل الفعال والفوري. ولكن في ظل الاعتماد المتزايد على التكنولوجيا الرقمية، باتت تطرح هذه الأدوات من خلال مفاهيم جديدة ليتم دمجها و إطلاقها بالتزامن مع مستشعرات حسية وأشعة قادرة على محاكاة الجمل العصبية . فهل هي مجرد صدفة أم هناك تدخل متعمد في حياتنا الخاصة؟
خلال الأعوام الأخيرة أصبحنا نشهد تطورًا ملحوظًا في استخدام البيانات والتحليلات لتوجيه الإعلانات والمحتوى نحونا. فمثلاً بعض الأفراد يرون إعلانًا عن منتج أو خدمة تمامًا مثلما كانوا يفكرون او يتحدثون عنه للتو، وهو ما يثير العديد من التساؤلات حول الخصوصية والتلاعب بالمعلومات الشخصية والعقل البشري الذي نبقى بدونه جماداً بلا قيمة.
مشروع BCI
بالتأكيد لا يعد مشروع "P300 Speller"، هو الأول من نوعه وهو الذي إستثمر من قبل شركات تجارية ، ولكن هناك العديد من الأبحاث والابتكارات في مجال التحكم بالعقل والتواصل بشكل مباشر باستخدام النشاط العقلي أثناء التعامل مع الهواتف النقالة والأجهزة اللوحية.
واحدة من هذه الابتكارات هي تقنية "Brain-Computer Interface" (BCI)، التي تسمح للمستخدمين بالتحكم في الأجهزة بأفكارهم.
في البداية تم تطوير تطبيقات تقنية BCI للمساعدة في تحسين جودة حياة الأشخاص ذوي الإعاقات وتوفير وسائل تواصل بديلة لهم. ولكن بعد ذلك تم تطويرها من قبل شركة Neuralink التي أسسها إيلون ماسك، والتي تعمل على تطوير تقنية BCI من خلال ربطها بالعقل من خلال طريقتين، الأولى زرع رقاقة تحت الجلد والثانية من خلال الأشعة لبعيد لتتحكم بالعقل.
بالتأكيد تقنية Brain-Computer Interface (BCI) قد تمت دراستها وتطويرها منذ عدة عقود، وهناك العديد من الباحثين والمخترعين الذين ساهموا في تطويرها على مر السنين. ومن بين الشخصيات المعروفة في هذا المجال:
1. جون دونوغو: كان أحد أوائل الباحثين الذين عملوا على تطوير تقنية BCI في السبعينيات و الثمانينيات.
2. برين تيونيسنا: باحث هولندي يُعتبر من رواد مجال BCI، وقد ساهم في تطوير الواجهات الدماغية للتحكم بالأجهزة الخارجية.
3. فيليب كنيغسمارك: باحث أمريكي عمل على تقنيات BCI في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، وهو أحد رواد هذا المجال.
4. ريتشارد أندرسون: باحث في مجال BCI ومخترع نظام تحكم عقلي يسمى "BrainGate".
هذه التقنيات التي تم استغلالها من كونها لأغراض إنسانية وتم الاستعانة بها لتصبح تجارية، تفتح الباب للتساؤلات حول إذا ما كان هناك تدخل متعمد في حياتنا اليومية، وإذا ما كان هذا التدخل له أهداف معينة. هل نحن حقًا نخترق بخصوصية حياتنا الشخصية ويتم التحقق بعقولنا؟ وما هو الدافع وراء هذا التحكم المحتمل في أفكارنا وسلوكياتنا؟
تأثير التكنولوجيا على الشباب الأوروبي
بعد الحرب العالمية الثانية، التي بدأت في 1 سبتمبر 1939 عندما اجتاحت ألمانيا بولندا، وانتهت رسميًا في 2 سبتمبر 1945 بإعلان الاستسلام الياباني بعد إلقاء القنبلتين النوويتين على هيروشيما وناغازاكي في 6 و9 أغسطس 1945 على التوالي. اعتمد المخطط الغربي على تخريب عقل الشباب الأوروبي من خلال شد عقلهم بعيدًا عن فكرة القوة والتحرر التي تربوا عليها، فقد تم ذلك من خلال إدخال التكنولوجيا الرقمية إلى المجتمع الشبابي إلى أوروبا وذلك في فترات مختلفة، ولكن كل هذا من بعد الحرب العالمية الثانية، و أول شيء دخل لأوروبا هو الحاسوب، حيث بدأ استخدام الحواسيب في العديد من البلدان الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية وتحديداً بداية ثمانينات القرن الماضي، وهذا جعل التكنولوجيا الرقمية تبدأ في التوسع والانتشار في المنطقة.
حيث باتت جلسات الشباب الأوروبي تتمحور حول كيفية الحصول على تقنيات جديدة الطرح على تفكيرهم بدلا من التحدث عن الأرض والتاريخ ومكافحة الفكر الاستيطاني (الروسي والبريطاني والأمريكي) الذي استولى البلاد.
ومن خلال هذا المنهج، دخلت التكنولوجيا ليس فقط في مجال التغييب المجتمعي بل أيضًا في مجال تغيير نمط الثقافة، حيث بات الشاب يدرس التكنولوجيا بدلاً من الدراسات الإنسانية التي كانت تؤهله لخدمة وطنه.
ومن خلال سلاح التغييب العقلي تأثرت جيلات الشباب بهذه السياسة التي استهدفت تحويل اهتمامات الشباب واستخدام طاقاتهم في مجال التكنولوجيا والعلوم اللامرئية بدلاً من الثقافة والفنون والتراث.
وهذا النهج أثر بشكل كبير على نشوء جيل يسعى للعمل في مجالات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بدلاً من الاهتمام بتطوير مجتمعهم وخدمة وطنهم.
تكرار التجربة على شعوب المنطقة العربية
اليوم، ومع تفشي الثورة الرقمية في عالمنا العربي وانتقالها من القارة الأوروبية إلى المنطقة خاصتنا، نشهد تداعيات هذه المخططات الغربية بعد أن عكست تجربة التخريب العقلي أثرها الإيجابي في أوروبا.
فبعد مأساة الحروب والاضطرابات التي تعرضت لها بلدان العالم العربي خلال الربيع العربي ظهرت تكنولوجيا جديدة تعرف باسم "السوشيال ميديا". عبر هذه المنصات الرقمية، بدأت شركات معروفة وغير معروفة في تأجيج الصراع المجتمعي العربي بين مؤيد لهذا الحراك الشعبي وبين رافض ، ومن بعد تغلغل هذه الافة التكنولوجية بيننا ، تحولت أولويات واهتمامات الشباب العربي من القائمين على فكر وثقافة وتاريخ الى مدمن للتآخي مع هاتفه النقال .
وهنا الشباب العربي ، رأوا أنفسهم بين خيارين صعبين خلال فترة الربيع العربي؛ إما التنازل عن الفكر والثقافة والمبادئ التي يؤمنون بها، والانصياع للفكر الجديد الذي يتسم بالتفاهة والانحطاط الأخلاقي من خلال ممارسة أنشطة السوشيال ميديا، أو الانغلاق على أنفسهم والدخول في صراع ما يُسمى بالرجعية الفكرية.
بكل اختصار هذه التجربة المكررة من السياسة الغربية أثرت على تغيير نمط التفكير والسلوك للشباب الأوروبي، واليوم أثرت على الشباب العربي بشكل كبير بسبب تفريغ طاقات الشباب في مجالات محددة دون توجيهها نحو تطوير النفس والمجتمع.
مضار الآفة الرقمية
اليوم حيث يسمح السوشيال ميديا بالإعلان عن أي شيء ونقله للمستهلك برفة عين، من خلال تقنيات تسليط الضوء السريع على شيء ما، ويمكن تسليط الضوء على قضايا مجتمعية والترويج لمبادرات إيجابية، إلا أنه يمكن أيضًا استخدامه لتحقيق أهداف سلبية مثل تخريب المجتمع.
احدى انواع التخريب هو :
١- التعليم الرقمي
التعليم السوي في الوطن العربي بات اليوم غير محط اهتمام الشباب، حيث يسعون بدلاً من ذلك إلى التعلم والتخرج من مدارس وجامعات غربية، سواء أمريكية أو بريطانية وغيرها، وذلك لسببين: السبب الاول لانها تقدم دراسات بالمجان ، والسبب الثاني لأن فرص العمل المتاحة للمتعلم في جامعة عربية أقل بكثير من فرصة قبول شخص متعلم من جامعة اجنبية . وهذه الفرص المتاحة التعليمية المجانية من جامعات واكاديميات غربية بالتأكيد لا تُعوَّض للشباب العرب.
وتأثير هذا التوجه يبدأ بضرب ثقافة الشاب العربي، حيث يجد الشاب نفسه يتحدث بلغة غير عربية ويمتلك مصطلحات غربية تطغى على فكره وقوميته العربية، وبالمجمل يؤدي في المستقبل إلى استغناءه عن لغته وثقافته. وكما يُلاحظ أن من خلال هذه الفرص المجانية، يتم تغذية الشباب العرب بما يريده الغرب من خلال مناهجه التعليمية، مما يؤدي إلى تشكيل شخصياتهم وثقافتهم وفق ما يريده الآخرون ( ألا وهم الغرب ) ، وهذا يُعد فرصة ذهبية للتأثير على المستقبل والتوجهات الثقافية للشباب العرب، وكل هذا من خلال إعلان على السوشيال ميديا فحواه "احصل على تعليم جامعي بالمجان في ارقى الجامعات الامريكية او البريطانية التي ستفتح لك آفاق للحصول على عمل لكونها جامعات دولية".
٢- التلاعب بالأفكار
للأسف اليوم، نشهد أن أي شخص غربي لديه القدرة على الاستفادة من الفرص في مجتمعنا العربي، حتى ولو واجه منافسة من الكفاءات العربية. بأن يتم تقديم التسهيلات والامتيازات للأجانب، مما يشكل دافعًا لكل عربي أن يتخلى عن هويته ويسعى جاهدًا ليصبح "غربيًا"، وذلك للحصول على المكاسب التي يحظى بها الغربيون.
هذا الاتجاه الذي تسهله السوشيال ميديا من خلال طرحها لبرامج الهجرة أو من خلال تمضية الوقت في بيئة رقمية من خلال لعبة معينة أو واقع إفتراضي معين يشير إلى محاولة محو مفهوم العروبة والقومية، وتوجيه الأفراد العرب بأنه يجب عليهم الاندماج في الثقافة الغربية ونسيان تاريخهم وثقافتهم التي تغنى بها العرب على مدار قرون طويلة.
وهذه المحاولات تعكس عدم الرضا عن الهوية العربية ومحاولة تشجيع التفكير في الانتماء إلى الثقافة الغربية كمعيار للنجاح والتقدم، وهو ما يتنافى مع قيم العزة والانتصار التي حارب من أجلها أجدادنا وآباؤنا.
٣- البث الحي
نشهد اليوم انعدام الأخلاق في المجتمع، حيث يتم دفع المال مقابل التخلي عن القيم والأخلاق، وهذا يظهر بوضوح من خلال وسائل التواصل الاجتماعي المنتشرة مثل تيك توك وبيغو لايف وغيرها، حيث يتم تبني سلوكيات غير أخلاقية مقابل الربح، مثل العرض المقابل للتعري.
كما يظهر أيضاً انعدام الأخلاق من خلال التقلب العام والمزاج العام، حيث يقوم بعض الأشخاص بالطعن في الدين وترويج فكرة عولمته وتجديده أو الكفر به ، وكل هذا تحت غطاء حرية التعبير، أما السبيل هو حصد المشاهدات ، وهذا يؤثر هذا النظام سلباً على القيم الاجتماعية والأخلاقية في المجتمع، لكون هذه المنصات تتيح لكل شخص ابداء ونشر رأي ما يفكر فيه بدون رقابة او محاسبة . وأيضا تعزز هذه التطبيقات وجود انفلات مجتمعي من خلال مطالبة بالحريات دون مراعاة للقيم والأخلاق، ومن خلال تسهيل الحصول على الفكر المنحل، الذي يتنافى مع القيم الأخلاقية التقليدية.
ختاما نقول إن ما قصدناه في هذه المقالة هو تسليط الضوء على التحول الرقمي الذي شهدناه في العقود الأخيرة لاشك له منافع ملموسة ولايمكن نكرانها. لكن في المقابل هناك مضار مجتمعية وثقافية واخلاقية. لذا، من المهم أن تتبنى الحكومة وتحديداً وزارة الاتصالات خطة لعلاج انتشار استخدام بعض التطبيقات الرقمية ومنع او حظر استخدامها لكونها أثرت وستؤثر على ثقافتنا ومجتمعاتنا .وأن نكون كشعوب على دراية بالتحديات والمخاطر المحتملة، لكي نستغل فوائد التكنولوجيا الرقمية بأقصى قدر ممكن دون التضحية بالقيم والمبادئ الأساسية.
يقول نيلز بورغ:
"العقل هو أعظم سلاح يمتلكه الإنسان، وإذا غاب عنه، فإنه يفقد القدرة على التفكير والإبداع والتطور."
الأستاذة ميرال عبود / عضو اتحاد سوريا العهد الجديد
باحثة ومحاضرة في أمن المعلومات ومتخصصة في دراسة وتقديم حلول حماية البيانات والأنظمة من التهديدات السيبرانية، التشفير، إدارة المخاطر، الأمن السحابي، والتحليل والتصدي للهجمات الإلكترونية. كما يهتم بالامتثال للتشريعات المتعلقة بحماية الخصوصية والبيانات.

وتبعا لما نعاينه في يومياتنا بأن نرى أن المستقبل المشرق لأطفالنا يتعرض لخطر شديد، بفعل طرح سوء المبادئ الأخلاقية التي تجتاح مجتمعاتنا، مفتعلة ثغرات الهدم في أذهان الكبار والصغار من تهديد بتفكيك النسيج الاجتماعي وتقويض القيم الأساسية التي تبني عليها الأمم تطورها وتقدمها، وكل هذا مختصر بسلاح واحد يستهدفنا إسمه السوشيال ميديا .
كان لابد من طرح مساوء هذه الآفة الرقمية، وذلك من خلال ان ننطلق في اتحاد سوريا العهد الجديد لطرح المشكلة والسعي لمعالجتها لكونها تنخر في عقول شبابنا. وأيضاً أن نسلط الضوء على تأثيرات مواقع التواصل الإجتماعي السلبية والمدمرة لمسارات تطورهم وتقدمهم الشخصي والمجتمعي، ونلقي الضوء على هذا السلاح الذي سيفتك بحضارتنا وما تبقى من القيم.
أسمع أرى أتكلم
للوهلة الأولى، يخطر في بال القارئ صورة القرود الثلاثة التي تُعتبر رمزاً للسرية التامة، والتي تجسد فكرة "لا أرى، لا أسمع، لا أتكلم". ولكن الحقيقة أن القرود الثلاثة هي شكل تشبيهي للحالات التي تتميز بعدم القدرة على السماع والرؤية والتحدث. وهو تمثيل مختصر لفرضية علمية في علم النفس تُعرف باسم "ALS"، والتي ترمز إلى "التصلب الجانبي الضموري"، وتُستخدم لوصف مجموعة من الظروف التي تؤدي إلى العجز في هذه القدرات الأساسية.
مشروع P300
تتنوع الدراسات والأبحاث في مجال التحكم بعقل الإنسان والتواصل معه بشكل مباشر بين مجالات مختلفة مثل الطب النفسي والهندسة العصبية والذكاء الصناعي والتكنولوجيا الحيوية. فقد تطورت هذه الدراسات لتشمل تقنيات مثل التحفيز العصبي والتفاعل العقلي-الحاسوب والواقع الافتراضي والتعلم الآلي. وتهدف هذه الجهود الرائدة إلى تطوير أنظمة تواصل متقدمة وأجهزة مساعدة للأشخاص الذين يعانون من إعاقات أو حالات صحية معقدة.
ويمكن ان نذكر أحد أهم التجارب المعروفة في هذا المجال، تقنية "P300 Speller"، والتي تعتمد على تسجيل أمواج الدماغ P300 للتواصل مع الأشخاص الذين يعانون من الشلل أو الضعف الحركي.
مشروع P300 Speller هو مشروع قديم يهدف إلى تطوير تقنية للتواصل مع الأشخاص الذين يعانون من الشلل أو الضعف الحركي باستخدام النشاط العقلي. فكان أول من اخترع هذه التقنية، فريق بحثي من جامعة توبنغن الألمانية، بقيادة بروفيسور بيرنت شلوك، وذلك في عام 1988.
حيث أنه يمكن للمستخدم لهذه الخاصية التحكم في حروف على شاشة الكمبيوتر باستخدام تفريغ العقل لتكوين الكلمات والجمل، أو انه يمكن ان يحرك عينيه في اتجاه معين لكي يتم التعامل مع الحركة للارشاد على شيء ما من خلال نظام ترجمة الحركة.
ومع تطور التكنولوجيا، أصبحت الهواتف النقالة والأجهزة اللوحية تقدم وسيلة للتواصل الفعال والفوري. ولكن في ظل الاعتماد المتزايد على التكنولوجيا الرقمية، باتت تطرح هذه الأدوات من خلال مفاهيم جديدة ليتم دمجها و إطلاقها بالتزامن مع مستشعرات حسية وأشعة قادرة على محاكاة الجمل العصبية . فهل هي مجرد صدفة أم هناك تدخل متعمد في حياتنا الخاصة؟
خلال الأعوام الأخيرة أصبحنا نشهد تطورًا ملحوظًا في استخدام البيانات والتحليلات لتوجيه الإعلانات والمحتوى نحونا. فمثلاً بعض الأفراد يرون إعلانًا عن منتج أو خدمة تمامًا مثلما كانوا يفكرون او يتحدثون عنه للتو، وهو ما يثير العديد من التساؤلات حول الخصوصية والتلاعب بالمعلومات الشخصية والعقل البشري الذي نبقى بدونه جماداً بلا قيمة.
مشروع BCI
بالتأكيد لا يعد مشروع "P300 Speller"، هو الأول من نوعه وهو الذي إستثمر من قبل شركات تجارية ، ولكن هناك العديد من الأبحاث والابتكارات في مجال التحكم بالعقل والتواصل بشكل مباشر باستخدام النشاط العقلي أثناء التعامل مع الهواتف النقالة والأجهزة اللوحية.
واحدة من هذه الابتكارات هي تقنية "Brain-Computer Interface" (BCI)، التي تسمح للمستخدمين بالتحكم في الأجهزة بأفكارهم.
في البداية تم تطوير تطبيقات تقنية BCI للمساعدة في تحسين جودة حياة الأشخاص ذوي الإعاقات وتوفير وسائل تواصل بديلة لهم. ولكن بعد ذلك تم تطويرها من قبل شركة Neuralink التي أسسها إيلون ماسك، والتي تعمل على تطوير تقنية BCI من خلال ربطها بالعقل من خلال طريقتين، الأولى زرع رقاقة تحت الجلد والثانية من خلال الأشعة لبعيد لتتحكم بالعقل.
بالتأكيد تقنية Brain-Computer Interface (BCI) قد تمت دراستها وتطويرها منذ عدة عقود، وهناك العديد من الباحثين والمخترعين الذين ساهموا في تطويرها على مر السنين. ومن بين الشخصيات المعروفة في هذا المجال:
1. جون دونوغو: كان أحد أوائل الباحثين الذين عملوا على تطوير تقنية BCI في السبعينيات و الثمانينيات.
2. برين تيونيسنا: باحث هولندي يُعتبر من رواد مجال BCI، وقد ساهم في تطوير الواجهات الدماغية للتحكم بالأجهزة الخارجية.
3. فيليب كنيغسمارك: باحث أمريكي عمل على تقنيات BCI في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، وهو أحد رواد هذا المجال.
4. ريتشارد أندرسون: باحث في مجال BCI ومخترع نظام تحكم عقلي يسمى "BrainGate".
هذه التقنيات التي تم استغلالها من كونها لأغراض إنسانية وتم الاستعانة بها لتصبح تجارية، تفتح الباب للتساؤلات حول إذا ما كان هناك تدخل متعمد في حياتنا اليومية، وإذا ما كان هذا التدخل له أهداف معينة. هل نحن حقًا نخترق بخصوصية حياتنا الشخصية ويتم التحقق بعقولنا؟ وما هو الدافع وراء هذا التحكم المحتمل في أفكارنا وسلوكياتنا؟
تأثير التكنولوجيا على الشباب الأوروبي
بعد الحرب العالمية الثانية، التي بدأت في 1 سبتمبر 1939 عندما اجتاحت ألمانيا بولندا، وانتهت رسميًا في 2 سبتمبر 1945 بإعلان الاستسلام الياباني بعد إلقاء القنبلتين النوويتين على هيروشيما وناغازاكي في 6 و9 أغسطس 1945 على التوالي. اعتمد المخطط الغربي على تخريب عقل الشباب الأوروبي من خلال شد عقلهم بعيدًا عن فكرة القوة والتحرر التي تربوا عليها، فقد تم ذلك من خلال إدخال التكنولوجيا الرقمية إلى المجتمع الشبابي إلى أوروبا وذلك في فترات مختلفة، ولكن كل هذا من بعد الحرب العالمية الثانية، و أول شيء دخل لأوروبا هو الحاسوب، حيث بدأ استخدام الحواسيب في العديد من البلدان الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية وتحديداً بداية ثمانينات القرن الماضي، وهذا جعل التكنولوجيا الرقمية تبدأ في التوسع والانتشار في المنطقة.
حيث باتت جلسات الشباب الأوروبي تتمحور حول كيفية الحصول على تقنيات جديدة الطرح على تفكيرهم بدلا من التحدث عن الأرض والتاريخ ومكافحة الفكر الاستيطاني (الروسي والبريطاني والأمريكي) الذي استولى البلاد.
ومن خلال هذا المنهج، دخلت التكنولوجيا ليس فقط في مجال التغييب المجتمعي بل أيضًا في مجال تغيير نمط الثقافة، حيث بات الشاب يدرس التكنولوجيا بدلاً من الدراسات الإنسانية التي كانت تؤهله لخدمة وطنه.
ومن خلال سلاح التغييب العقلي تأثرت جيلات الشباب بهذه السياسة التي استهدفت تحويل اهتمامات الشباب واستخدام طاقاتهم في مجال التكنولوجيا والعلوم اللامرئية بدلاً من الثقافة والفنون والتراث.
وهذا النهج أثر بشكل كبير على نشوء جيل يسعى للعمل في مجالات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بدلاً من الاهتمام بتطوير مجتمعهم وخدمة وطنهم.
تكرار التجربة على شعوب المنطقة العربية
اليوم، ومع تفشي الثورة الرقمية في عالمنا العربي وانتقالها من القارة الأوروبية إلى المنطقة خاصتنا، نشهد تداعيات هذه المخططات الغربية بعد أن عكست تجربة التخريب العقلي أثرها الإيجابي في أوروبا.
فبعد مأساة الحروب والاضطرابات التي تعرضت لها بلدان العالم العربي خلال الربيع العربي ظهرت تكنولوجيا جديدة تعرف باسم "السوشيال ميديا". عبر هذه المنصات الرقمية، بدأت شركات معروفة وغير معروفة في تأجيج الصراع المجتمعي العربي بين مؤيد لهذا الحراك الشعبي وبين رافض ، ومن بعد تغلغل هذه الافة التكنولوجية بيننا ، تحولت أولويات واهتمامات الشباب العربي من القائمين على فكر وثقافة وتاريخ الى مدمن للتآخي مع هاتفه النقال .
وهنا الشباب العربي ، رأوا أنفسهم بين خيارين صعبين خلال فترة الربيع العربي؛ إما التنازل عن الفكر والثقافة والمبادئ التي يؤمنون بها، والانصياع للفكر الجديد الذي يتسم بالتفاهة والانحطاط الأخلاقي من خلال ممارسة أنشطة السوشيال ميديا، أو الانغلاق على أنفسهم والدخول في صراع ما يُسمى بالرجعية الفكرية.
بكل اختصار هذه التجربة المكررة من السياسة الغربية أثرت على تغيير نمط التفكير والسلوك للشباب الأوروبي، واليوم أثرت على الشباب العربي بشكل كبير بسبب تفريغ طاقات الشباب في مجالات محددة دون توجيهها نحو تطوير النفس والمجتمع.
مضار الآفة الرقمية
اليوم حيث يسمح السوشيال ميديا بالإعلان عن أي شيء ونقله للمستهلك برفة عين، من خلال تقنيات تسليط الضوء السريع على شيء ما، ويمكن تسليط الضوء على قضايا مجتمعية والترويج لمبادرات إيجابية، إلا أنه يمكن أيضًا استخدامه لتحقيق أهداف سلبية مثل تخريب المجتمع.
احدى انواع التخريب هو :
١- التعليم الرقمي
التعليم السوي في الوطن العربي بات اليوم غير محط اهتمام الشباب، حيث يسعون بدلاً من ذلك إلى التعلم والتخرج من مدارس وجامعات غربية، سواء أمريكية أو بريطانية وغيرها، وذلك لسببين: السبب الاول لانها تقدم دراسات بالمجان ، والسبب الثاني لأن فرص العمل المتاحة للمتعلم في جامعة عربية أقل بكثير من فرصة قبول شخص متعلم من جامعة اجنبية . وهذه الفرص المتاحة التعليمية المجانية من جامعات واكاديميات غربية بالتأكيد لا تُعوَّض للشباب العرب.
وتأثير هذا التوجه يبدأ بضرب ثقافة الشاب العربي، حيث يجد الشاب نفسه يتحدث بلغة غير عربية ويمتلك مصطلحات غربية تطغى على فكره وقوميته العربية، وبالمجمل يؤدي في المستقبل إلى استغناءه عن لغته وثقافته. وكما يُلاحظ أن من خلال هذه الفرص المجانية، يتم تغذية الشباب العرب بما يريده الغرب من خلال مناهجه التعليمية، مما يؤدي إلى تشكيل شخصياتهم وثقافتهم وفق ما يريده الآخرون ( ألا وهم الغرب ) ، وهذا يُعد فرصة ذهبية للتأثير على المستقبل والتوجهات الثقافية للشباب العرب، وكل هذا من خلال إعلان على السوشيال ميديا فحواه "احصل على تعليم جامعي بالمجان في ارقى الجامعات الامريكية او البريطانية التي ستفتح لك آفاق للحصول على عمل لكونها جامعات دولية".
٢- التلاعب بالأفكار
للأسف اليوم، نشهد أن أي شخص غربي لديه القدرة على الاستفادة من الفرص في مجتمعنا العربي، حتى ولو واجه منافسة من الكفاءات العربية. بأن يتم تقديم التسهيلات والامتيازات للأجانب، مما يشكل دافعًا لكل عربي أن يتخلى عن هويته ويسعى جاهدًا ليصبح "غربيًا"، وذلك للحصول على المكاسب التي يحظى بها الغربيون.
هذا الاتجاه الذي تسهله السوشيال ميديا من خلال طرحها لبرامج الهجرة أو من خلال تمضية الوقت في بيئة رقمية من خلال لعبة معينة أو واقع إفتراضي معين يشير إلى محاولة محو مفهوم العروبة والقومية، وتوجيه الأفراد العرب بأنه يجب عليهم الاندماج في الثقافة الغربية ونسيان تاريخهم وثقافتهم التي تغنى بها العرب على مدار قرون طويلة.
وهذه المحاولات تعكس عدم الرضا عن الهوية العربية ومحاولة تشجيع التفكير في الانتماء إلى الثقافة الغربية كمعيار للنجاح والتقدم، وهو ما يتنافى مع قيم العزة والانتصار التي حارب من أجلها أجدادنا وآباؤنا.
٣- البث الحي
نشهد اليوم انعدام الأخلاق في المجتمع، حيث يتم دفع المال مقابل التخلي عن القيم والأخلاق، وهذا يظهر بوضوح من خلال وسائل التواصل الاجتماعي المنتشرة مثل تيك توك وبيغو لايف وغيرها، حيث يتم تبني سلوكيات غير أخلاقية مقابل الربح، مثل العرض المقابل للتعري.
كما يظهر أيضاً انعدام الأخلاق من خلال التقلب العام والمزاج العام، حيث يقوم بعض الأشخاص بالطعن في الدين وترويج فكرة عولمته وتجديده أو الكفر به ، وكل هذا تحت غطاء حرية التعبير، أما السبيل هو حصد المشاهدات ، وهذا يؤثر هذا النظام سلباً على القيم الاجتماعية والأخلاقية في المجتمع، لكون هذه المنصات تتيح لكل شخص ابداء ونشر رأي ما يفكر فيه بدون رقابة او محاسبة . وأيضا تعزز هذه التطبيقات وجود انفلات مجتمعي من خلال مطالبة بالحريات دون مراعاة للقيم والأخلاق، ومن خلال تسهيل الحصول على الفكر المنحل، الذي يتنافى مع القيم الأخلاقية التقليدية.
ختاما نقول إن ما قصدناه في هذه المقالة هو تسليط الضوء على التحول الرقمي الذي شهدناه في العقود الأخيرة لاشك له منافع ملموسة ولايمكن نكرانها. لكن في المقابل هناك مضار مجتمعية وثقافية واخلاقية. لذا، من المهم أن تتبنى الحكومة وتحديداً وزارة الاتصالات خطة لعلاج انتشار استخدام بعض التطبيقات الرقمية ومنع او حظر استخدامها لكونها أثرت وستؤثر على ثقافتنا ومجتمعاتنا .وأن نكون كشعوب على دراية بالتحديات والمخاطر المحتملة، لكي نستغل فوائد التكنولوجيا الرقمية بأقصى قدر ممكن دون التضحية بالقيم والمبادئ الأساسية.
يقول نيلز بورغ:
"العقل هو أعظم سلاح يمتلكه الإنسان، وإذا غاب عنه، فإنه يفقد القدرة على التفكير والإبداع والتطور."
الأستاذة ميرال عبود / عضو اتحاد سوريا العهد الجديد
باحثة ومحاضرة في أمن المعلومات ومتخصصة في دراسة وتقديم حلول حماية البيانات والأنظمة من التهديدات السيبرانية، التشفير، إدارة المخاطر، الأمن السحابي، والتحليل والتصدي للهجمات الإلكترونية. كما يهتم بالامتثال للتشريعات المتعلقة بحماية الخصوصية والبيانات.

إرسال تعليق