هو عنوان غريب يستجدي البحث لكشف الخفايا وإدراك المعرفة ، وكما نقولها دائما، نصف الحقيقة سمعنا بها ولكن النصف الآخر مخفي بين مسافات العناوين .
لهذا أردنا الحديث عن حقيقة شردتها الأطماع وجعلتها في عداد المفقودين ، متكئين على حقائق غائبة أو مغيبة.
مشروع ضم سوريا الى الإتحاد الأوروبي
خلال العقد الذي سبق مسلسل الدمار الذي شهدته سوريا في عهد المخلوع بشار الأسد، كان الاتحاد الأوروبي يتطلع إلى تحقيق التكامل بفضل همة وإسهام الشعب السوري.
سوريا، التي كانت قبل عهد النظام البائد تعيش ازدهارًا واكتفاءً شبه كامل، احتلت صدارة الدول المنتجة والمصدرة، وتميزت باستقرارها المالي ونموها الاقتصادي. فقد امتلكت قدرة على الإنتاج والزراعة والصناعة تفوق استيراداتها، مما جعلها في المقدمة. ومن أهم العوامل التي ساهمت في ذلك، أنها كانت دولة ذات تأثير سياسي وثقافي وتجاري مستقل، لا يخضع للتبعية الغربية التي كانت سائدة آنذاك. وهذا ما جعلها مركزًا هامًا لصنع سياسات منطقة الشرق الأوسط ووجهة لكل من أراد تسوية النزاعات.
في عام 2005، أعلنت سوريا أن نسبة الديون الخارجية لم تتجاوز 10% من الناتج المحلي الإجمالي، مما عكس آنذاك قوة الاقتصاد السوري و استقراره النسبي.
مما أشار إلى أن ديونها الخارجية كانت محدودة جدًا مقارنة بعدد السكان، وحجم المساحة، وقوة الاقتصاد، والجيش الذي كان يستهلك نسبة كبيرة من ميزانية الدولة، رغم كل النهب الذي انتهجته العصابة الحاكمة في سرقة مقدرات البلاد.
ولا شك أن دولة تمتلك مثل هذه الإمكانيات كانت دائمًا محط أنظار العديد من الدول الساعية للتقارب معها، لكن الاتحاد الأوروبي كان في مقدمة الراغبين في تقديم عروض الشراكة لسوريا، بهدف ضمها كشريك في المجموعة الأوروبية.
في الفترة بين عامي 2005 و2007، أبدى الاتحاد الأوروبي اهتمامًا بانضمام سوريا إلى اتفاقية "من أجل المتوسط"، وهي الاتفاقية التي انطلقت في باريس عام 1995 تحت اسم "برشلونة". وقد كانت تهدف إلى تعزيز الاستقرار والتكامل في منطقة البحر المتوسط بشكل عام، إضافة إلى ترسيخ فكرة الحوار من أجل تحقيق السلام.
لبّت سوريا النداء آنذاك ووافقت على أن تكون عضوًا في هذه الاتفاقية، إلى جانب عدد من الدول العربية مثل لبنان والأردن وتونس وغيرها.
وقد منحت هذه الخطوة الاتحاد الأوروبي دافعًا إضافيًا لتعزيز علاقاته مع سوريا، ساعيًا لجعلها شريكًا حقيقيًا، خاصةً في ظل تميزها في المجالات الصناعية والزراعية والتجارية، وهو ما اكتسب أهمية كبيرة بالنظر إلى التحديات التي واجهها الاتحاد الأوروبي بسبب نقص الموارد.
وبالفعل، رحبت سوريا بفكرة الشراكة السورية الأوروبية، وجرت العديد من اللقاءات والتفاهمات مع مبعوثين أوروبيين، بما في ذلك مبعوثو جمهورية ألمانيا الاتحادية. وفي منتصف عام 2008، تم توقيع اتفاق شراكة أوروبية-سورية، في خطوة شكلت تحولًا هامًا في العلاقات بين الجانبين.
ومضى الأوروبيون في بحث الخطوات العملية لتنفيذ الاتفاقية، حيث قدمت ألمانيا آنذاك مساهمة مالية قدرها ستة وعشرون مليون يورو كدفعة مبدئية من إجمالي مبلغ يقدر باثنين وثلاثين مليار يورو، خُصص لدعم التنمية في سوريا. وكان الهدف من ذلك تمهيد الطريق نحو شراكة اقتصادية متكاملة بين سوريا والاتحاد الأوروبي.
خلال الفترة بين أواخر عام 2008 وعام 2009، بدأت الاتفاقية تأخذ شكلًا ملموسًا، وتركزت على ثلاثة مجالات رئيسية:
1. العلاقات السياسية: تعزيز التفاهم والتعاون في القضايا الدولية والإقليمية.
2. العلاقات الاقتصادية والتجارية: إنشاء منطقة تجارة حرة بين الاتحاد الأوروبي وسوريا، مع تخفيض تدريجي للرسوم الجمركية على مدى اثني عشر عامًا، بهدف تسهيل التبادل التجاري وتعزيز التقارب التنظيمي والإصلاحات الاقتصادية والقانونية.
3. التعاون الشامل: التعاون في مجموعة واسعة من المجالات، مثل التعليم، العلوم، الثقافة، حماية البيئة، الصحة، الزراعة، الاستثمار، ومكافحة الجريمة المنظمة.
في ذلك الوقت، حاول بشار الأسد التلاعب وإظهار أن نظامه يعطي جهودًا لتحقيق الشروط والمتطلبات اللازمة للانضمام الكامل، حيث شهدت البلاد إطلاق شعارات إصلاحية زائفة وخطط تعديل في بعض المجالات، بما في ذلك القوانين والسياسة الداخلية. وتم إجراء تغييرات شكلية على جوانب غير جوهرية من الحياة في سوريا لتتوافق مع المعايير الأوروبية، مثل قوانين السير، منح بعض التراخيص للمشاريع التنموية والاقتصادية، ورفع الحد الأدنى للأجور، وحتى في مجال حقوق الإنسان.
هدف الاتحاد الأوروبي من خطوة الشراكة تمثل ب توسيع نطاق شراكته الاقليمية بضم سوريا وتركيا كشريكين، وهذا ساهم في تعزيز العلاقات التركية-السورية وقتها وخصوصا في مجالات الاقتصاد والأمن والسياسة. وعلى الرغم من التحديات، كان الاتحاد الأوروبي يعمل جاهدا على مساعدة و توجيه سوريا نحو تلبية المتطلبات اللازمة لتحقيق شروط الانضمام .
كانت أهم تطلعات الأوروبيين ورغبتهم في إتمام هذه الشراكة مبنية على أهداف محددة:
1. كسب طفرة النشاط السوري في الزراعة والصناعة: إذ كان الاقتصاد السوري يتمتع بإنتاج قوي في هذين القطاعين، ما جعله فرصة مهمة للاستثمار الأوروبي.
2. الدخول إلى السوق العربية عبر سوريا: باعتبار أن السوق العربية ذات نمط استهلاكي متسارع، فقد رأى الأوروبيون في سوريا بوابة مثالية لجعلها محطة ترانزيت للمنتجات الأوروبية.
3. تعزيز النفوذ الأوروبي في الوطن العربي: حيث كان لأوروبا مصلحة في الاستفادة من علاقات سوريا القوية مع دول الخليج العربي لزيادة تأثيرها في المنطقة.
4. هدف أمني استراتيجي: نظراً للعلاقة المتوترة بين أوروبا من جهة وروسيا وإيران من جهة أخرى، رأى الاتحاد الأوروبي أن شراكته مع سوريا يمكن أن توفر له موطئ قدم في المنطقة، بما في ذلك احتمال إنشاء نقاط عسكرية أوروبية داخل الجغرافيا السورية مستقبلاً.
ومع ذلك، تأخر تنفيذ الاتفاقية وتم تأجيلها بسبب عدة مشاكل إدارية وتنظيمية داخل سوريا، والتي كانت بحاجة إلى إصلاحات لضمان اندماجها في الاقتصاد والسياسة الأوروبية. لكن السبب الرئيسي الذي أعاق تقدم المشروع كان رفض سوريا قطع علاقاتها مع إيران وروسيا، وهو ما شكل عقبة أمام الشراكة. في المقابل، ظل الاتحاد الأوروبي ينتظر اكتمال الإجراءات القانونية لاستقبال سوريا كعضو جديد في مجموعته.
خلال أحداث الربيع العربي في عامي 2010 و2011، تحركت الدوائر المغلقة للعمل على تشكيل تحالف إقليمي جديد، وكان أحد أهداف هذا المخطط كبح طموحات الاتحاد الأوروبي في المنطقة.
ولإفشال المشروع الأوروبي، جرى دمج سوريا في سياق الربيع العربي عبر تسليط الضوء على ملفات حساسة داخل النظام الحاكم، مثل الفساد المنتشر في بنيته، وكشف ممارسات عدد من الشخصيات المؤثرة في الدولة، بالإضافة إلى التركيز على قضايا الحريات وحقوق الإنسان، والممارسات الأمنية الخارجة عن إطار القانون.
تأثرت سوريا بشكل كبير بتلك الأحداث، وسرعان ما لحقت بركب الثورة التي اجتاحت ليبيا واليمن ومصر، لتدخل في حالة من الدمار والانهيار الاقتصادي بسبب تمسك الأسد المخلوع بالسلطة من خلال دعم إيراني وروسي غير منقطع.
نتج عن هذه الأحداث تجميد اتفاقية الشراكة الأوروبية السورية في عام 2012 وشهدت العلاقة بين أوروبا وسوريا تحولًا من شراكة إلى توتر وعداء .
لكن اللافت في الأمر أن نظرة الأوروبيين تجاه الشعب السوري لم تتغير؛ فقد رأوا أن هذا الشعب، الذي يمتلك إمكانيات كبيرة، لا ينبغي التخلي عنه. وبدلًا من إتمام الاتفاقية والتوجه إلى حكومة دمشق للتفاوض على تعزيز مصادر القوة التنموية والاقتصادية للبلدان الأوروبية، فتحت أوروبا أبوابها للاجئين السوريين الهاربين آلة الحرب الدموية، مقدمة لهم فرصة للاندماج في مجتمعاتها تحت شعارات حقوق الإنسان.
بين عامي 2014 و2015، شهد العالم أكبر موجة لجوء للسوريين إلى أوروبا، حيث دخلوا الحدود الأوروبية مستخدمين بطاقات الهوية ونسخًا عن وثائقهم الشخصية، متجاوزين بذلك شروط الحصول على تأشيرة "شنغن"، التي بقيت مخصصة للشعوب المرفهة.
وبغض النظر عن الأسباب وراء هذه التسهيلات، فقد وجد السوريون مأوى في عالم امتنع عن أكل السردين لأنه "يتغذى على جثث السوريين الغارقين في البحر المتوسط". ورغم الترحيب الذي حظوا به، فإنهم يعيشون اليوم في دول لا تمت بصلة إلى تقاليدهم أو دينهم أو أعرافهم. لكن خياراتهم المحدودة، في ظل تكالب الأمم على بلادهم، دفعتهم إلى الهروب طلبًا للنجاة والرحمة في القارة العجوز.
وهنا، لا يمكن القول إن سبب الدمار في سوريا كان هذه الاتفاقية وحدها، ولا نجزم بذلك. إنما الهدف هو إبراز أحد العوامل التي ساهمت في تأجيج الغضب الشعبي، من خلال تسليط الضوء على ما تم تجاهله لسنوات، وهو الفساد الإداري في بعض مفاصل الدولة، وحكم عصابة الأسد الظالم. فقد شكّل هذا الفساد عائقًا أمام النزاهة والإصلاح، رغم أن القيادة السورية كانت دائمًا ترفع شعار "الإصلاح" في وجه هذه التحديات، أما في المضمون كانت تنافي ما تقول.
الغرف المغلقة لم ترغب في تمدد الاتحاد الأوروبي داخل حدود المنطقة، وكان هناك من سعى إلى تحجيم قوة سوريا وتركيا، وكان لهم دور كبير في إفشال المشروع. فلو كانت الحكومة السورية لم تنجر وراء إيران وروسيا و مضت في شراكتها مع الاتحاد الأوروبي، لكان من المحتمل أن يلحق بها لبنان والأردن لاحقًا، ولربما كانت الشعوب قد نالت حياة أفضل. لكن من أطلق تسمية "الثورة الخلاقة" لرسم سياسات الشرق الأوسط الجديد هو من أراد إنهاء هذا المشروع بهدف الحفاظ على سيطرة الاتحاد الأوروبي، مما يجعلنا نتساءل عن الجهات المستفيدة من الوضع الذي وصلنا إليه في المنطقة.
من الجدير بالذكر أن التقارب بين سوريا وتركيا والاندماج الصناعي والتجاري والسياسي خلال عامي 2009 و2010 لو استمر، لكانت هذه الجغرافيا المتصلة قد شكلت عقبة حقيقية أمام القوى المهيمنة. لكن للأسف، تم فرض العداء والتفكك والدمار كوسيلة مضادة للتعاون والتقدم في المنطقة.
اليوم، وبعد هروب العصابة الحاكمة في سوريا وتحرير البلاد من قبضة النظام، يهم الاتحاد الأوروبي أن يعيد رسم سياساته لتعزيز علاقاته مع سوريا وتفعيل الشراكة التي انقطعت لسنوات. ومن الواضح أن الوضع الحالي يتيح فرصة جديدة للاتحاد الأوروبي لإعادة النظر في استراتيجياته في المنطقة، خاصة في ظل المتغيرات الجيوسياسية والتحولات في النظام السوري.
إعادة تفعيل الشراكة بين سوريا والاتحاد الأوروبي قد توفر للطرفين فرصة للتعاون في العديد من المجالات الحيوية، مثل التنمية الاقتصادية، وتعزيز الاستقرار الإقليمي، وخلق فرص للتجارة والاستثمار، إضافة إلى تعزيز الدور السوري كمركز جيوسياسي في المنطقة. إن سوريا، التي كانت تمتلك إمكانيات كبيرة في الماضي، تظل اليوم ركيزة مهمة للأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط.
إلا أن الاتحاد الأوروبي يحاول التعامل مع المتغيرات الجديدة بعقلانية وحذر، حيث إن أي خطوة نحو التعاون مع سوريا يجب أن تكون مدروسة بعناية في إطار الشروط التي تضمن تحقيق مصالح الطرفين على المدى الطويل.
وفي الختام، استذكر مقولة ميخائيل نعيمة التي قال فيها: "الحرب ـ لو يعلمون ـ لا تستعر نيرانها في أجواف المدافع، بل في قلوب الناس وأفكارهم أيضًا".
إرسال تعليق