بعد أكثر من عقد من الاضطرابات التي ألقت بظلالها الثقيلة على سوريا، تقف البلاد اليوم على مفترق طرق حاسم، حيث تشبه أموالها المجمدة في البنوك الدولية بثروة مغلولة، محاصرة بسلاسل العقوبات الدولية والتشريعات الصارمة. في قلب هذا المشهد، تمثل قضية فك التجميد تحديًا قانونيًا واقتصاديًا معقدًا، إذ يخوض الاقتصاد السياسي السوري معركة لاستعادة موارده المحتجزة، والتي يمكن أن تشكل حجر الأساس لمرحلة إعادة الإعمار والنهوض الاقتصادي. ومع تصاعد الجهود الدبلوماسية من أصدقاء الشعب السوري، يبقى السؤال الأهم: هل ستنجح الحكومة الجديدة في كسر هذا القيد المالي وإعادة تدفق السيولة إلى شرايين الاقتصاد المنهك؟
الاقتصاد السوري بين فكّي كماشة
منذ اندلاع الثورة في سوريا عام 2011، خاضت البلاد رحلة مريرة من العنف الذي وجهه النظام الحاكم ضد الشعب والذي أسفر عن دمار هائل للبنية التحتية وتشريد ملايين من أبنائها. ومع انهيار النظام، بدأ الأمل يلوح في الأفق لاستعادة الاستقرار وبناء الدولة من جديد، إلا أن تجميد الأموال كان بمثابة حاجز غير مرئي يعترض هذا المسار. كما لو أن الاقتصاد السوري عالق بين فكّي كماشة: من جهة، العقوبات الاقتصادية المفروضة بموجب قانون قيصر الأمريكي الذي دخل حيز التنفيذ في 2020، والذي استهدف النظام وأذرعه، ومن جهة أخرى، الأموال المجمدة التي كانت مصدرًا حيويًا لتمويل إعادة الإعمار والنهضة الاقتصادية.
وبذلك، لم تقتصر معاناة السوريين على دمار الحرب، بل امتدت لتشمل أيضًا مصادرة أموال الشعب التي كان النظام يستخدمها لصالحه، متجاهلاً مستقبل الوطن. وما كانت تلك الأموال سوى أداة في يد القوى الدولية التي اختارت استخدامها كوسيلة للضغط السياسي على النظام.
تأثير تجميد الأموال على الاقتصاد السوري
تعرضت سوريا لتداعيات اقتصادية كبيرة نتيجة لتجميد الأموال، حيث أثرت العقوبات على كافة قطاعات الاقتصاد، من البنوك إلى الشركات والمشاريع الصغيرة. كانت هذه الأموال المجمدة تمثل جزءاً كبيراً من الاحتياطيات المالية التي كان من الممكن استخدامها في إعادة الإعمار وتوفير الخدمات الأساسية. ووفقاً لتقارير البنك الدولي، انكمش الاقتصاد السوري بنسبة تفوق 70% منذ بدء الأحداث في سوريا (المصدر: البنك الدولي، 2021).
ومع تشكيل الحكومة الجديدة، بدأت جهود مكثفة لإنهاء تجميد الأموال واستعادة السيولة المالية. حيث أن الحكومة توجهت إلى المجتمع الدولي، مطالبة برفع العقوبات وتحرير الأموال المجمدة. وتم تنظيم مفاوضات غير معلنة مع الدول الأوروبية والولايات المتحدة من قبل دول أصدقاء الشعب السوري لتحقيق هذه الأهداف. كما شهدت الفترة الأخيرة تزايد الدعم من بعض الدول الصديقة، لتعزيز الاستقرار الاقتصادي في سوريا .
البلدان التي جمدت الأرصدة السورية
تعرضت الأرصدة السورية لعقوبات تجميد من عدة دول، منها:
- سويسرا: حجم الأرصدة المجمدة في سويسرا يقدر بحوالي 99 مليون فرنك سويسري (ما يعادل حوالي 112 مليون دولار أمريكي).
- الاتحاد الأوروبي: العقوبات الأوروبية تشمل فرض عقوبات على الأرصدة والمعاملات والتجارة كانت تمارس لضغط الاتحاد على النظام لوقف أعماله العدوانية.
- الولايات المتحدة: الولايات المتحدة فرضت عقوبات اقتصادية صارمة على النظام السوري منذ بداية الثورة، والتي تشمل تجميد الأرصدة. و هناك تقديرات أخرى تشير إلى أن العقوبات الاقتصادية الأمريكية والأوروبية قد جمدت مئات الملايين من الدولارات من الأرصدة السورية
تحديات تخطي عائق إنعاش الاقتصاد
إن إعادة الأموال المجمدة إلى سوريا يمثل أحد أعقد التحديات التي تواجه البلاد في مسارها نحو التعافي الاقتصادي بعد سنوات من الحرب. ولكن هذا الهدف لا يتحقق بين ليلة وضحاها، حيث يوجد العديد من العوائق السياسية والقانونية التي تعرقل هذا المسار.
أول وأهم العوائق هو الاستقرار الداخلي لسوريا، فالنظام الحاكم في سوريا اليوم يواجه تساؤلات حول استمرارية سيطرته على البلاد وقدرته على تقديم مستقبل أكثر استقرارًا لمواطنيه. تتسم القوة الحاكمة في سوريا بمرجعية إسلامية متشددة، مما يثير القلق لدى المجتمع الدولي. غالبية الدول الكبرى، التي تملك الأموال المجمدة، لن تتخذ خطوات لتخفيف أو رفع الحظر على هذه الأموال إلا إذا تأكدت من أن القيادة السورية ستمضي في مسار استقرار البلاد وليس تفاقم أزماتها. ففي النهاية، يُعتبر تأكيد مستقبل سوريا السياسي والأمني أحد العوامل الحاسمة في قرار المجتمع الدولي.
الملف الأمني والتنسيق الاستخباراتي هو أحد الملفات الكبرى التي تربط الغرب بالشرق الأوسط. الدول الكبرى التي تمتلك السيطرة على الأموال المجمدة، مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، غالبًا ما تشترط على سوريا تقدمًا ملموسًا في التعاون الأمني والاستخباراتي. فالأموال قد تتحول إلى ورقة للمساومة في مساعي تلك الدول لضمان استقرار المنطقة، ومحاربة الإرهاب، وضمان التنسيق الأمني على الأرض. بدلاً من أن تكون هذه الأموال أداة للإعمار، فقد تتحول إلى أداة ضغط سياسي قد يُشترط فيها التعاون العسكري والاستخباراتي مع تلك الدول.
وبجانب ذلك، يبرز حماية الأقليات كأحد الشروط الجوهرية التي قد تطلبها بعض الدول الغربية والعربية. فالنظام الذي كان يقوده بشار الأسد معروف بسياساته القمعية تجاه العديد من الأقليات الدينية والعرقية داخل سوريا. لذلك، لن يكون كسر الحظر على الأموال أمرًا محتملاً إلا إذا أثبتت الحكومة السورية الجديدة قدرة على حماية حقوق الأقليات الدينية والعرقية وضمان التعايش السلمي داخل المجتمع. فالعالم اليوم يولي اهتمامًا أكبر لهذه القضايا في الشرق الأوسط، حيث أصبحت حقوق الإنسان وحماية الأقليات شرطًا أساسيًا لمفاوضات رفع الحظر.
الملفات السياسية والاقتصادية الأخرى التي تشمل الحفاظ على الاستقرار الداخلي بين مختلف الأطياف السورية، وكذلك معالجة مشاكل اللاجئين والمهجرين، قد تشكل أيضًا جزءًا من المقايضة الدولية لرفع الحظر. في حال تمكنت سوريا من إيجاد حلول فعّالة لتلك القضايا وتحقيق بعض التقدم في الملفات العالقة، فإن هذا قد يسهل عودة الأموال المجمدة ويمنح البلاد فرصة للانطلاق في مرحلة جديدة من الإعمار والتنمية.
في الختام، يمكن القول إن مستقبل سوريا يعتمد بشكل كبير على كيفية تعاملها مع تحدي تجميد الأموال وإعادة بناء الاقتصاد. تواجه الحكومة الجديدة مهمة صعبة، لكنها ليست مستحيلة إذا تم التعامل معها بحكمة وتعاون دولي مستمر. إذ ستظل عملية إعادة الأموال المجمدة مرهونة بالتطورات السياسية في سوريا، بالإضافة إلى المقايضات الدولية التي تهدف إلى تحقيق الاستقرار في المنطقة وضمان مصالح القوى الكبرى. الأمر لا يتعلق فقط بتخفيف العقوبات، بل بالقدرة على بناء إطار سياسي واجتماعي يطمئن المجتمع الدولي ويفتح المجال لمستقبل مستدام لسوريا وشعبها.
وبالتأكيد، إن التحرير التدريجي للأموال المجمدة سيشكل خطوة مهمة نحو استعادة الاستقرار والتنمية في البلاد. ولكن، تبقى نقطة البداية هي ما ستقدمه القيادة الحالية لسوريا، إذ أن القرارات التي سيتخذها النظام في المرحلة المقبلة ستكون العامل الأهم في تحديد مصير هذا الملف الاقتصادي.
سوريا و معركة استعادة الأموال المجمدة
الكاتب: اتحاد سوريا العهد الجديد تاريخ النشر:
آخر تحديث:
وقت القراءة: للقراءةعدد الكلمات: كلمةعدد التعليقات: 0 تعليق
إرسال تعليق