في أزقة المدن التي اعتادت على الأمل، وفي الساحات التي شهدت صرخات الحرية، يطفو سؤال يؤرق الضمائر: لماذا ننسى؟ لماذا تتكرر الخيبات وكأن التاريخ لا يعلمنا شيئًا؟ هل كتب على هذا الشعب أن يكون صاحب ذاكرة السمك، فلا يذكر من خانه، ولا يتعلم من ماضيه الدامي؟
فمنذ أن سالت الدماء الأولى، كان هناك من يقف في الصفوف الأولى منادياً بالحرية، وكان هناك من يبيع الأوهام، يلبس قناع الثورة وهو يحيك الخيانة في الظلام. مرّت الأيام، وتحولت الوعود إلى رماد، لكن الغريب أن الوجوه ذاتها التي تآمرت بالأمس، ما زالت تجد من يصدقها اليوم!
كم من مرة صفح السوريون عن جلاديهم؟ كم من مرة مُدّت الأيدي لمن طعنها سابقًا؟ كم من مرة منحنا الفرصة لمن باع قضيتنا؟ في كل مرة نعيد الخطأ ذاته، وكأن الذاكرة محيت، وكأن الدرس لم يكن يومًا مكتوبًا بدماء الأبرياء.
للأسف فالتضحيات تُنسى سريعًا; المأساة ليست فقط في تكرار الخطأ، بل في نسيان التضحيات. كم من شهيد دفع حياته ثمنًا للحقيقة، ثم أصبح مجرد ذكرى باهتة في صفحات النسيان؟ كم من معتقل قضى زهرة عمره في الزنازين، ثم لم يجد اسمه حتى على جدران الوفاء؟ نحن ننسى سريعًا، نهتف بأسماء اليوم، ونترك رموز الأمس تذبل كأنها لم تكن يومًا جزءًا من هذا النضال.
هناك من يقول إن النسيان نعمة، لكنه بالنسبة لشعبنا لعنة. فحين ننسى، نحن لا نفتح صفحة جديدة، بل نسمح للجلاد أن يعيد سكاكينه إلى أعناقنا. نحن لا نتصالح مع الماضي، بل نسمح له أن يكرر نفسه بلا خجل.
إن ذاكرة السمك ليست مجرد غفلة عابرة، بل داء يجب الشفاء منه. لا يمكننا بناء مستقبل حر إذا كنا ننسى الماضي مع كل لحظة ضعف. لا يمكننا أن نتحرر إذا كنا نعيد ذات الأخطاء، ونقع في ذات المصائد.
التاريخ لا يرحم النسيان، فكل أمة تكتب مصيرها بوعيها بتاريخها، والسوريون اليوم أمام خيارين: إما أن يتعلموا من ماضيهم، وإما أن يبقوا عالقين في دوامة الخديعة. لأن من لا يتذكر، محكوم عليه أن يعيش المأساة ذاتها مرة بعد أخرى.
فهل سنكسر لعنة ذاكرة السمك، أم سنبقى نغرق في نسيان يأكل قضيتنا قبل أن تأكلها المؤامرات؟
الأستاذة ميرال عبود / عضو اتحاد سوريا العهد الجديد
باحثة ومحاضرة في أمن المعلومات ومتخصصة في دراسة وتقديم حلول حماية البيانات والأنظمة من التهديدات السيبرانية، التشفير، إدارة المخاطر، الأمن السحابي، والتحليل والتصدي للهجمات الإلكترونية. كما يهتم بالامتثال للتشريعات المتعلقة بحماية الخصوصية والبيانات.
إرسال تعليق